الجمعة، 16 سبتمبر 2011

همسة عتاب

 بسم الله الرحمن الرحيم

من سلسلة حديث الثلاثاء

همسة عتاب


قيل لأحد الحكماء: بم كنت أعلم قرنائك ؟ فأجاب: ( لأنني أنفقت في زيت المصباح لدرس الكتب مثل ما أنفقوا في شرب الخمر)
إنه العلم الذي ينتشل العبد المملوك، ويجلسه مجالس الملوك، ويرتفع بالمنقوص إلى أهل الخصوص، به يتعظ الغافلون، وفيه يتنافس المتنافسون، الخشية من ثمراته، والرفعة من بركاته، { إنما يخشى الله من عباده العلماء }، { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }، وحسبك أن أهله ورثة النبي المختار، تستغفر لهم حتى الحيتان في البحار....، آثر النبي-صلى الله عليه وسلم- مجلسه على مجلس الذكر وقال: " كلا المجلسين خير، وأحدهما أحب إلي من صاحبه، أما هؤلاء فيذكرون الله تعالى ويسألونه،فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما المجلس الآخر فيتعلمون الفقه، ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلماً، وجلس إلى أهل الفقه "
ويوم كانت دولة الإسلام فتية، وصولته قوية، كانت المساجد تكتظ بطلاب العلم، وحلقات الدرس، يتدافعون إلى مجالس العلماء في خفة وشغف ونهم، يحدوهم قول الشاعر:
تعلم العلم واجلس في مجالسه *** ما خاب قط لبيب جالس العُلما
أحدهم يأكل وكتابه في حجره، وثان يشغل نفسه في حضرة ضيوفه ببري الأقلام وتسطير الدفاتر، وثالث لا يهجع إلا سويعات والبقية في التجوال بين المجلدات، ورابع يقطع الفيافي والقفار، ويهجر الزوجة والصغار، ليغترف من علوم ذوي الأبصار، هجروا لذيذ الطعام، وعافوا طيب المنام، ورفضوا الساقة وحطوا رحالهم إلى قدام، وفي الأمام، وشعارهم : ( أتعب قدمك فكم من تعب قدمك ).
لقد نبذوا الوسادة، فنالوا السيادة، راموا اللؤلؤ فزجوا بأنفسهم البحر، علموا أنه بقدر العنا تُنال المُنى، فالكبار هم أهل العناء والكلف، والصغار طلاب سرف وترف، والمتنبي يقول:
إذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
أحد طلاب العلم يقف على باب عالم ويقول: ( تصدقوا علينا بما لا يتعب ضرساً، ولا يسقم نفساً ) فأخرجوا له طعاماً ونفقة، فقال: ( فاقتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم، إني طالب هدى، لا سائل ندى )، فلما نال مراده خرج جذلاً فرحا يقول: ( علم أوضح لبساً، خير من مالٍ أغنى نفساً ).
وهذا الحسن اللؤلؤي يقول: ( غبرت أربعين عاماً، ما قِلت وما بِت ولا اتكأت إلا والكتاب على صدري )، فلا ينال العلياء إلا من سال منه العرق،وأعياه التعب والأرق، وهؤلاء هم الخواص وهم الصفوة الذين عناهم أبو بكر الآجري حين قال: ( إن الله -عز وجل- اختص من خلقه من أحب فهداهم إلى الإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم، وعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، ورفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم )، { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب}
يا شباب الإسلام ورواد نهضة الأمة:
العلم يحيي قلوب الميتيين كما *** تحيا القلوب إذا ما مسها المطر
وحياة الأمة وبقاؤها بالعلم، { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }، وما دمنا منطلقين لتحطيم أغلال الشرك والضلالة، ووأد دواعي البغي والجهالة، وترسيخ معاني الخير والأصالة، فوقودنا هو العلم، والثقافة شراعنا، فالعلم يجفل صاحبه ويقلقه عن حالة السكون، ويحركه نحو التمرد على الهواتف والصوارف وقواطع الطريق، وحين طفح الحكم الأموي بالمشكلات، وجاء عمر بن عبد العزيز فألحق الهزيمة بكل العقبات، حيث كتب إلى عماله على الولايات، يقول: ( مروا أهل العلم والفقه عندكم فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم ومساجدهم).
إنها لغصة نشعر بمرارتها في حلوقنا ونحن نرى الشاب المسلم يندفع لخدمة دينه بعاطفة جياشة، وهمة وثابة، ولكنه مصاب بقحط ثقافي، وقد غشيته سحابة من الجهل المركب، لو قرأ آية من كتاب الله لوليت منه فراراً، وملئت حسرة وانكساراً، تناديه من قريب: أن هلم إلى محاضن التربية، وحلق الدرس، فيعرض وينأى بجانبه، وينفي عن نفسه النقصان، تهمس في أذنه بالعتاب، وتلين له الخطاب، وترشده لصحبة الكتاب، فيصم أذنيه إدباراً، ويثني عطفه استكباراً، تأخذ بيده ليرتع في رياض العلم، وينهل من معين الذكر، ويتنسم نفحات الإيمان، ويصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتراه ينظر إلى مجالس العلم من طرف خفي، وتذهب كلماتك ونصائحك أدراج الرياح، كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً.
فوا أسفاه على جيل نعول عليه، وتدفع لواء التغيير إليه، والرافعي يحذرنا: ( إن الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك ).
ألا يشعر المسلم الملتزم بحرج وهو يجهل أركان الوضوء، أو أحكام التلاوة، أو شروط الصلاة، أو ركائز التوحيد، ؟ أليست نقيصة تلحقه وهو لم يسمع بموافقات الشاطبي، وإحياء الغزالي، ومغني ابن قدامة، ومحلى ابن حزم، وزاد ابن القيم، وبحور الخليل، وكتاب سيبويه، وفلسفة ابن رشد، ومعالم سيد، وأساس حوى، ورقائق الراشد وعوائقه ومنطلقه ومساره.....؟
إن أبناء الصحوة إن زهدوا في هذه الكنوز الثمينة، ونفضوا أيديهم من هذه المعاقل الأمينة، فهذا إيذان بمفسدة وخيمة، وعاقبة أليمة، لأن من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه، وأسس لبطالة تنتهي بفتنة، لأن الفراغ مفسدة، والعسكر الذي تسوده البطالة يجيد المشاغبات، فالعلم بضاعة الدنيا والآخرة، ولئن كسدت في هذا الزمان فلها يوم تروج فيه، والتاجر الناجح من يكثر الشراء ساعة الكساد، فإذا نفقت البضاعة عظم ربحه وزاد.
فأمتكم يحدوها الأمل أن تراكم في العلم متنافسين، وإلى مجالسه سباقين، وفي العمل الإسلامي منتظمين، وللكتب القيمة مقتنين، وللقراطيس متوسدين، فإن الاشتغال بالأقلام والأوراق، يجنبكم النجوى والشقاق
نعم الجليس إذا خلوت به *** لا مكره يخشى ولا شغبه
ونهضة الأمة بحاجة إلى علو همة، وكل واحد منا عند نفسه من الغفلة ما يكفيها، فتيقظوا ...وانطلقوا...واعتبروا يا أولي الألباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق