الجمعة، 16 سبتمبر 2011

في ظلال الإسراء والمعراج

 بسم الله الرحمن الرحيم

من سلسلة حديث الثلاثاء



في ظلال الإسراء والمعراج

  لئن اختلفت أقوال العلماء في توقيت رحلة الإسراء والمعراج؛ إلا أن الإيمان منعقد على كونها معجزة أُكرم بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخص بفضلها تشريفاً وتوقيراً، وتسلية وتقديراً، بعد كفاح دعوي باهظ التكاليف بدأت ملامح فجره تلوح، ونسائم عزه تفوح، وإنه لمن لوازم المسير، أن نتزود ونحن نخوض غمرات المحن ونكابد لفح الهجير، في عالم ليس فيه للضعيف والمظلوم نصير ولا مجير، حيث العدالة تغتال، ودماء الأبرياء تسال، وشعوب تُسام الخسف والإذلال، وعشرات الآلاف من الأسرى في الأصفاد والأغلال، ومع ذلك كله يتجدد الأمل ويشرق الطموح حين نقتبس من حادثة الإسراء والمعراج أمداداً منعشة تذلل الصعاب، وتهيئ لنا الأسباب، وتذكي في النفوس حرارة العزيمة الطامحة في نصر أكيد، وفجر جديد، ومجد تليد.
والحادثة بتفاصيلها في كتب السيرة، وخلاصتها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أُسري به جسداً وروحاً على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكباً البراق، في صحبة جبريل – عليه السلام - ، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، ثم عرج به إلى السماء، وفي كل سماء يقابل نبياً من الأنبياء، فيسلم عليه، ويرحب به، ويقر له بالنبوة، ثم صعد إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم لم يزل يسأل ربه التخفيف حتى جعلها خمساً، ولقد ذكر ابن القيم خلافاً في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلاماً لابن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلاً، وهو قول لم يقله أحد من الصحابة، وما نقل عن ابن عباس -رضى الله عنه – من رؤيته مطلقاً ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني، وقد جاء في بعض الطرق أن صدر النبي –صلى الله عليه وسلم- شق في هذه المرة كذلك، وقد عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك، ورأى في رحلته مالكاً خازن النار, ورأى الجنة والنار، ورأى أحوال أهل الكبائر وكيف يعذبون على ما أسلفت أيديهم من آثام، ثم في الصبح أخبر قومه بما حدث معه، مدللاً بالبراهين الساطعة فما زادهم ذلك إلا نفوراً وصدوداً واستكباراً، وهنا ينبري الصديق مؤيداً مصدقاً موقناً فينال ذلك الوسام المرموق، والمكانة التي تشرئب إليها النفوس وتتوق.
ولنا مع هذه المعجزة وقفات نأخذ منها العظات، ونتزود بها لما هو آت، ففيها من بالغ الدروس ما يرطب النفوس، ومنها:
الأول: لقد جاءت هذه الرحلة بعد ابتلاء شديد، وبطش عنيد، تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, تمثل في صدود وتكذيب، وإيذاء وتعذيب، فأكرمه الله بهذه الضيافة ليعلم أن أهل الأرض إذا خذلوا الحق فالله نصيره، وإذا تخلوا عن الداعية فالله مجيره، ( وكفى بالله ولياً وكفي بالله نصيراً )، فإن توفيت زوجته خديجة التى كانت تواسيه، ومات عمه أبو طالب الذي كان يحميه، فالله تعالى وليه وكافيه، وناصره على كل من يعاديه، ( أليس الله بكاف عبده، ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله فما له من هاد )، فلا يحزن الدعاة اليوم إن كُذبوا، أو عُذبوا، فهي سنة التمكين، وضريبة قيام الدين، والعاقبة للمتقين، فثمن العلياء تعب ولأواء، وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، وضحك الرياض في بكاء السحاب، وحياة النبات في شق التراب.




مهلاً فلا تيأسن اليوم إن عبست *** لك الخطوب وماجت حولك الظُلم
ما ضر موكبك الجرار أن طرحوا *** صخراً على دربه فالصخر ينحطم
وما يعوق ضياء الشمس إن سطعت *** غيم على جنبات الشمس يزدحم

الدرس الثاني: لقد ربطت هذه الرحلة بين المسجد الحرام – قبلة المسلمين في صلاتهم – وبين المسجد الأقصى برباط وثيق، ودُوِّن هذا في كتاب الله بأسلوب رقيق، وتعبير عميق، ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) فالذي يفرط في المسجد الأقصى يفرط في قبلته، ومن فرط في قبلته فقد ضيع دينه، ولقد كان اليهودي في أوروبا قبل قيام دولتهم بمائتي سنة إذا لقي أخاه من بني جنسه قال له في تفاؤل وأمل: إلى اللقاء غداً في أورشليم، فكيف غزا اليأس قلوب نفر من أبناء جلدتنا؟!! وما كان ذلك ليكون إلا حين ضعف حارس الإيمان، ووهنت حصون الثقة بالواحد الديان، وهل يتحرك الإحساس،عند قوم لا يصلُّون من الأساس، ويعبون الكاس، ويبيتون رهينة الضياع والإفلاس؟!!، ( ومن يهن الله فما له من مكرم )

همهم في اليوم أكل وكسا *** همهم في الليل خمر ونسا

فأسهل السهل عندهم التخاذل والتفريط، وبضاعتهم التي يروجون الخبال والتثبيط، ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم )، وكأني بجيل العقيدة الذي يفهم الدرس قد نهض يتبوَّأ دوره المنشود، وقد حطم عن معصميه القيود، ولن يركن لجمود أو قعود، حتى يطهر الأقصى من دنس يهود، وتعلو الراية على مآذنه في اليوم المشهود، ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً )، فالأمل بعد الله على الصحوة المباركة معقود، والتي أرادوا لها الفناء فكانت العنقاء، تصدح بإباء:

لا تهيئ كفني ما مت بعد *** لم يزل في أضلعي برق ورعد
 

أنا تاريخي ألا تعرفه *** خالد ينبض في قلبي وسعد
الدرس الثالث: إن الأنبياء والمرسلين هم الممثلون الشرعيون لهذه البشرية، ولقد صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى إماماً ليعطي للمسجد هويته الإسلامية وإلى الأبد، واليهود والنصارى لو صدقوا في انتمائهم إلى أنبيائهم لما نازعوا أمتنا هذا الحق الشرعي، ولكنهم مكابرون يعرضون أمن البشرية لخطر حروب لا تبقي ولا تذر، وإن زعموا الانتماء إلى إبراهيم عليه السلام، فنحن أولى به منهم، ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين )، فهوية الأقصى بعد إقرار الأنبياء، وشهادتهم أنه لأمة المحجة البيضاء، لا يأبه بفرى الشرعية الدولية العوراء، ولا بالسياسة الأوروبية الرعناء، ولا بتواطؤ الولاة الأجراء، والحقوق لا تضيع بالتقادم، ولسوف يأتي اليوم الذي نصلي فيه صلاة عمر لا صلاة السادات، ونقشع محنته ببذل التضحيات، وصنع البطولات، وليس بخوض المفاوضات وإطلاق الفرقعات، وطريقنا إلى النصر والتمكين، وتحرير الأقصى الحزين، من قبضة اليهود الغاصبين، هو طريق صلاح الدين، ويومها لن نعبر إلى باحات الأقصى ببطاقة ممغنطة أو تصريح مهين، ولكن ببطاقة كتب عليها : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )

الدرس الرابع: لقد هاجر إبراهيم – عليه السلام – من فلسطين إلى هناك ليبني البيت العتيق (بيت الأمن والتوحيد)، وأسري بمحمد –صلى الله عليه وسلم- من هناك إلى هنا ليبني وحدة الأنبياء (بيت الوحدة والسلام) , ولقد ظل لهذين البناءين أبلغ الأثر في بناء أمن البشرية، وإن استهداف أحدهما ببغي أو اعتداء يمثل هدماً لاستقرار البشرية جمعاء، وإيقاداً لفتنة تحرق الغبراء، وتزهق الأرواح وتهدر الدماء، ولن تنعم دولة يهود، وحلفاؤها بالأمن، حتى تكف عن إرهابها، وترجع الحقوق الشرعية إلى أصحابها، وإذا اغتروا اليوم بالجبروت والعتاد، والدعم والإمداد، فلن يطول أمد الإفساد، والله تعالي لهم بالمرصاد، ثم إن القوي لا يظل قوياً طوال حياته، والضعيف لا يدوم ضعفه أبد الآباد، فعمر الظالم قصير، وعيشه حقير، فهو لن يهنأ بعيش، وإن ملك أقوى جيش، ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )
ظن الطغاة بأن نار جحيمهم *** أقوى من الإيمان بالقرآن
لا والذي جمع القلوب بشرعه *** لا لن يطول تجبر القرصان
أسد العقيدة لن يداس عرينها *** ستهبُّ كالإعصار كالطوفان
ستموج تقتلع الطغاة لتعتلي *** فوق العروش شريعة الديان

وكما أن الله تعالى قصم أبرهة الأشرم يوم تجرأ على بيت الأمن والتوحيد، فجعله وجنوده كعصف مأكول، فمحنة الأقصى بإذن الله لن تطول، فالعرب تخلوا قديماً عن نصرة البيت الحرام، حتى أن جد النبي –صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى أبرهة يطالب بإبل له، فعجب أبرهة من طلب سيد القوم ، وكان يتوقع منه غضبة حارة للبيت الحرام، فرد عبد المطلب: أما الإبل فإنها لي، وأما البيت فله رب يحميه، ثم أنشأ يقول:

اللهم إن المرء يحمي أهله فاحمي حماك
لا يغلبنَّ صليبهم ومحالهم يوما محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فافعل ما بدا لك

وإن تخلي الحكام اليوم عن نصرة الأقصى وتحريره بسبب جبن أو خيانة، فالله كفيل أن يعصف بالغاصب ويشل أركانه، ولكنها سنة الدفع، ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )، فخير الناس من يجعله الله تعالى ستاراً لقدرته، وتنفيذ مشيئته، ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب )، ولقد جاء ذلك في حديث النبي –صلى الله عليه وسلم – " لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فينطق الشجر والحجر ويقول: يا مسلم ، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد "، فالمعركة الفاصلة قادمة بإذن الله تعالي، ورجالها في الحديث السابق موصوفون بالإسلام والعبودية لله، ولن يحظى بهذا الشرف صاحب راية جاهلية، ونزعة عرقية، ولقد صرح بذلك عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يوم فتح بيت المقدس فقال: ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة في غير الإسلام أذلنا الله ) ما أكثر الدروس التي تَرْشَح من هذه الرحلة الميمونة، وما أحوجنا اليوم إلى العمل الهادف والعزم المتوقد، وذلك بإحداث ثورة تغيير نفسي تنقلنا من الجدل إلى العمل، ومن اليأس إلى الأمل، ومن الاستخذاء إلى الاستعلاء، ومن الخمول و الانكفاء إلى التوثب والرجاء، ومن السلبية إلى الإيجابية، وكل ذلك تحقيقاً لقوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )، وهل يتأتى ذلك إلا بجهد طويل، وتربية عميقة، مع حسن توكل وابتهال، وخشوع وتذلل بين يدي الكبير المتعال، وثورة التغيير تبدأ بالنفس، ويشارك بعد ذلك في تأجيجها الدعاة وأولياء الأمور والمربون والمؤسسات المدنية والاجتماعية والحكومية، وكلما تكاتفت الجهود وتكاثفت، كان السير أصوب، والنصر أقرب.

الكفوف في الكفوف *** فاشهدوا عهودنا
الثبات في الصفوف *** والمضاء والفنا


والله الهادي إلى سواء السبيل








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق