الخميس، 22 سبتمبر 2011

وإذا قلتم فاعدلوا

بسم الله الرحمن الرحيم

من سلسلة حديث الثلاثاء

( وإذا قلتم فاعدلوا )






تغشاني الكآبة أحياناً ويعصف بي الأسف وأنا أرى بعض أهل الالتزام يطفح بالخصام، وتنهمر من لسانه سيول الذم والتشويه بحجة النصح والتوجيه، ويمتهن الانتقاص والتشهير مدعياً الإنقاذ والتصحيح، فيطرب لقحته مغرضٌ حسود، ويصفق لجرأته منافق حقود، وقد تهيم به نفسه في بحار من اللذة الغامرة أمام إطراء العوام وتحفيز الرعاع، فيطيش به ميزان الإنصاف فلا يفرق بين النصيحة والفضيحة، ويستوي عنده ظهور البيوت وأبوابها، ويلملم البعر المهين يحسبه الدر الثمين، ويتناسى في غمرة هذا الانتشاء المضمحل مصيدة الشيطان التي حذر منها القرآن فقال سبحانه : ( وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون )، إذ يرفع له الشيطان لافتة توهمه وتزين له الضلالة عنوانها : ( النقد البناء ، تصحيح المسار ، المصلحة الشرعية والوطنية ) وكلها مصطلحات ظاهرها الرحمة والوفاق، وحقيقتها التنابذ والشقاق، حيث تستباح تحت تلك الذرائع أعراض الناس أفراداً وجماعات، وتنفلت الألسنة بالفحش والبذاء، فيتصدع الإخاء، وينضب الوفاء، وتتهاوى ضوابط الهدى تحت مطارق الهوى، وتندرس معالم الفضيلة أمام الفتن الوبيلة، ويغيب قول السداد، فيعم الفساد في البلاد وبين العباد، وعلاج هذا الداء الدوي قلب تقي ولسان طاهر نقي، ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )
ولا يفطن لذلك إلا مؤمن، ولله در ابن تيمية – رحمه الله – حين قال: ( المؤمن صاحب بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل كامل عند حلول الشهوات ). وقد يعترض على هذا الكلام (بنو هيجان) ممن يترصدون العيب ويحسنون الرجم بالغيب، ويحسبونها دعوة إلى التخارص وغض الطرف عما يحدث من مخالفات وإساءات، وقد يفسرونها تبريراً للأخطاء، وتشجيعاً على الانكفاء، وحينها فقد جانبوا السداد، لأنني في واد وهم في واد

إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله *** فصمتك عن غير السدادِ سدادُ

ولقد وضع ابن تيمية – رحمه الله – قاعدتين ذهبيتين ينبغي أن يتشح بهما هؤلاء، الأولى: ( العباد آلة فانظر إلى من سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك لتستريح من الهم والغم )، والثانية: ( إذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه، ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية ).
إنه منهج تربوي أصيل درج عليه السلف – رضوان الله عليهم – وصدح بإحياء فقهه ابن تيمية - رحمه الله – لعل مفتوناً يشغله عيب نفسه عن ترصد الزلات وتتبع الهفوات، فيشرف بالانتماء إلى الكتلة الإيمانية التي صاغ ميثاقها أبو هريرة – رضي الله عنه – وهو يروي حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه )
وتعذر نفسك إما أسأت *** وغيرك بالعذر لا تعذرُ


وتبصر في العين منه القذاة *** وفي عينك الجذع لا تبصرُ


فقبل أن تتوغل في هذا الدرب الملغوم اقرأ بتدبر تلك اللافتة التي نصبها لك السري السقطي البغدادي يقول فيها: ( إن في النفس لشغلاً عن الناس، ومن علامة الاستدراج للعبد عماه عن عيبه واطلاعه على عيوب الناس )، فهذا بابك الذي ينبغي أن تلج منه مصلحاً ناصحاً وإلا....
فيا حسرة على مخدوع حسب أنه يحسن صنعاً، فانطلق يحصي العيوب وهو غارق في الذنوب، ويدقق في الهنات وهو أسير الغفلات، ويطالب بالدواء وهو داء، ويشدو بالتغيير ويحمل معول التدمير .
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها




اقعد فما أنت الذي يسعى إلى انهاضها

كم قلت: أمراض البلاد وأنت من أمراضها





إن النقد ظاهرة صحية حين يتجرد من الهوى محفوفاً بصدق النية، وصحة الطوية، بريئاً من التشفي والمغالاة، وعلامة ذلك احتساب جوانب الخير، والحذر من هدرها تحت عجلات العنت والتعصب، فقد ذكر الله محاسن يهود قبل مساوئهم – وهم من هم في الشر والرذيلة – لنتعلم فنون النقد البناء فقال سبحانه: ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً )، وهذا السمت الإسلامي الرفيع كان أيضاً عند نبي الله عيسى – عليه السلام – حيث مر مع قومه من الحواريين على كلب ميت قد أصبح رميماً، فجعلوا يقولون : ما أنتن رائحته !! فقال عيسى عليه السلام : ما أجمل أسنانه !!، كي يعلمهم درساً في الإيجابية التي يزهد فيها غلاة النقد وفرسان التجريح، وعليها قام علم الجرح والتعديل كميزان للرجال لا يشوبه حيف ولا استطالة، ( فما زاد فضله عن سقطه وهب سقطه لفضله )، وأسيادنا الفقهاء أسسوا عليه قاعدة الطهارة الحسية علنا نؤصل على ذلك الطهارة المعنوية المتمثلة في صون اللسان وصفاء الجنان، فقالوا: ( إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل الخبث )، ولو أن عاقلاً صعد ربوة الإنصاف بعين سليمة من القذى، وقلب خلي من الهوى لأبصر أطناناً من الخير يتعامى عنها من يلبس السواد على عينيه، ويضخم كل سوءة وقعت بين يديه، وقد تكون فرية وصلت إليه، وكأنه المعني بقول الإمام ابن القيم – رحمه الله - : ( من الناس من يشبه الذباب الذي لا يقع إلا على الجرح )، ولأمثاله قيل في الحكم ( يأيها الرجل لا تكن كالمنخل يرسل أطيب ما فيه ويمسك بالحثالة ).

إن الذين يمتطون صهوة المجد في كل عصر ينطلقون من رغبات متباينة، فمنهم الناقم الساخط المتشائم الذي لا يرى شيئاً من الضير في أن يهدم كل خير



وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا





ونسي أنه لو ضرب الجبل بالزجاج ألف مرة ما انكسر، ولو ستر الصبح بكل شيء ما انستر، وهذا المعلول لن يرضي في جميع الأحوال, ولو عاملته بلطف ودلال، وسقيته الماء الزلال





ومن يك ذا فم مرٍ مريضٍ *** يجد مراً به الماء الزلالا




ومنهم النفعي المصلحي الذي إن أُعطي مدح، وإن مُنع قدح، وهذا لا يُلتفت إليه، ولا يُعول عليه، لأنه يقاد من بطنه، فإذا شبع هش، وإذا جاع غش، حياته مراوغة ومداهنة، واستعطاف واستلطاف، فمواقفه وأحكامه وفق ميوله الشخصية، ورغباته الذاتية، لا يسترشد بها إلا الخاطئون، ومثل هذا كبارق ليل ليس في برقه ندى، قد وها سقاؤه، وأُريق في فلاة الشهوة ماؤه، وكون سياسته عند ذوي المروءة مذمومة، فإن شهادته في الآخرين مخرومة.

ومن هؤلاء المخلص الغيور، الذي يسد الخلل، ويداوي العلل، ويقيل الزلل، وهو في ذلك آخذ بأدب النصح لا يحيد، يجهر بالنكير والتحذير والنذير ، ولكن في وجه من يملك قرار التغيير، وبهذا يكون ممن يقال لهم : ( لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها )، وأما المخلص الذي يسكب نصيحته في كل ناحية وشعب، فيتلقفها جهول لأنفه شخير ولحنجرته جعير، فإننا نذكره بقول الشاعر:

أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل *** ما هكذا تُورد يا سعدُ الإبل





وكما يسقط الناقم والنفعي من سجل النصح العفيف، ويلام الأمين الذي لا يحسن التجديف، فإن الذي يتطامن للخطأ ويسكت عنه هو من أصحاب الوزن الخفيف، ولا تعاب أمة ولا دولة ولا جماعة إن حدث فيها بعض انحراف عن الجادة، ما بقيت أصوات المصلحين تعلو على نقيق الناكبين، ولكن الهلاك والعياذ بالله لو أخمدت أنفاس المخلصين، وجعجعت حناجر الأفاكين، فلا تبديل يومئذ لسنة الأولين .





متى ما أتيت الأمر من غير بابه *** ضللت وإن تدخل من الباب تهتدِ






وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق