الجمعة، 16 سبتمبر 2011

شراب الشهوة يورث الشرق

بسم الله الرحمن الرحيم




من سلسلة حديث الثلاثاء




شراب الشهوة يورث الشرق
 


الحمد لله الذي أعطى وجاد ، والشكر له أن هدانا سبيل الرشاد ، وأعز دعوتنا بالتضحية والجهاد ، والصلاة والسلام على سيّد الزهاد ، والسابق في تحصيل الزاد ليوم الميعاد ، وعلى آله وأصحابه صفوة العباد ، الذين عافوا الراحة والرقاد ، وزهدوا في دار البوار والكساد ، وهتف حاديهم في كل واد :
خضعت نفسي للباري فسدت الكائنات *** أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات
إخواني :
ما أجمل أن يرتشف العبد من سلسبيل الوحي ما يقيه ظمأ الهواجر ، ويقتبس من سناه ما يبدد عتمة الدياجر ، ويتلو في الغدو والآصال ، وعند بريق الآمال قول الكبير المتعال : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً }.
إنه بيان إلهي يستأنس به الدعاة إذا تزاحمت الشهوات ، وتزينت لهم الفتن بشتى المغريات ، يحذرهم موارد الدنيا إلا من غَرْفة تبلغ المقيل ، وتيسر الرحيل ، وتخفف الحمل في سفر طويل ، ثم يشعل همتهم لسعي حثيث نحو دار المقر ، ليأمنوا العطش في يوم شديد الحر ، لا نجاة فيه ولا مفر ، إلا لمن أرصد له ما أبهج وسر ، وطرح من قلبه حب ما أتعب وضر ، واستظل بخيمة نصبها ابن القيم للدعاة وكتب على بابها : (كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا ، فإن الولد يتبع أمه ) .
كم من دعاة تألقوا ، وطاروا على أجنحة الشهرة وتسامقوا ، وحين عنت لهم الدنيا تسلقوا فتزلقوا ، وابن الجوزي يهتف بهم ناصحاً : ( شراب الشهوة حلو ولكنه يورث الشَّرَق ) ، فما أفاقوا حتى أناخت مطاياهم في قاع المعرة ، وداهمهم الخزي كرةً بعد كرة ، ( واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً )
كم من داعية سطع ولمع ، وأشاروا إليه بالبنان في كل مجتمع ، وحين تراقصت أمامه الدنيا أغرته بالطمع ، فانتكس وخنع ، وابن الجوزي يهامسه ويقول : ( أصل الأصول ترك التشوف إلى الفضول ) ، وأبو سليمان الداراني يهديه جواز نجاة ، فيه عصمة للدعاة ، فحواه : ( من صارع الدنيا صرعته ، وترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة ) ، غير أنه أعرض وانصرف ، واشرأب عنقه لللذاذة والترف ، فنُزع عنه بهاء الآدمية والشرف ، ومُسخ إلى بهيمة همها السقاء والعلف ، ( ومن يهن الله فما له من مكرم)
كالهر يخشى شرب ماءٍ بجدولٍ *** ويشرب من أوساخ ماءٍ بحفرة
يا حملة اللواء ، ويا أصحاب البيعة والوفاء :
كتب علينا ونحن نسافر في قطار الدعوة، أن نرنو إلى الجنان ، ونغض الطرف عن دنيا يشوبها كدرٌ وهوان ، ( فالدنيا مجاز والآخرة وطن ، والأوطار إنما تطلب في الأوطان ) ، والداعية إن شغلته مغانم العاجلة عن مغارم الآجلة طال حزنه ، وخف وزنه ، وفصرت همته ، وتكدرت مسيرته ، و إن أراد الآخرة ، وظف من أجل فكرته كل شيء وسخره ، دون أن يلتفت إلى زينة فاخرة ، أو متعة زاخرة ، وكان هو الأحرى بقول عنترة :
ينبيك من شهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغي وأعف عند المغنم
إن من يغار على سمت الدعاة وسمعتهم النظيفة ، يأسف أن يرى من بعضهم تلهفاً على رتبة أو ترقية أو وظيفة ، إذ كيف تقع الأُسْد على جيفة ، ونسي هذا أو ذاك أن هذه النزعة الشائنة لا تليق بأتباع دعوة حصيفة ، ولقد قيل :
مازالت الدنيا لنا دار أذى *** ممزوجة الصفو بألوان القذى
والعجب حين ينجح هذا الداعية في تجاوز محطات المحن بكل شموخ وثبات , ثم يهوي سريعاً في مستنقع الشهوات , وكأنه لم يقرأ لافتةً في الطريق الدعوي عليها توقيع ابن القيم بقوله القيم :
( أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل ) , فكم هي الدنيا خطيرة , طوت الآلاف في ثبجها , من المغفلين , واصطادتهم في شراكها , حيث المشارب والمراكب والمناصب والمراتب فخسروا وما لهم في الآخرة من نصيب , إذ ليس يجتمع حب الدنيا مع حب الدين , وهذا ما فهمته عجوز سمعت شاباً يقول في الحرم :
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين
فقالت له : هما ضرتان , فأمسك أيتهما شئت وطلق الأخرى .
ولقد عرفت أناساً وصلوا في تاريخ هذه الأمة إلى القمة , ترى أحدهم ينبري لإنجاز كل مهمة , فلما التفت إلى المنصب باع الذمة , ولحقت به المذمة , حتى غدا صفراً لا يشفع ولا يرفع ولا ينفع , بل يُدفع من رياض الدعاة ويُصفع .
أيها العاملون الأوفياء :
هي همسة عتابٍ معطرةٌ بأنسام البيعة , قد عجنت برحيق الغيرة , وصبت في قالب الإخاء , وطهيت بحرارة الشفقة , وطويت بغلاف المحبة , وقدمت على بساط التجرد , علها تُطبع على صفحة القلب فيزهد , ومعذرة إلى الله فيشهد , لجأنا إليها عندما رأينا بعضاً من الشباب يزاحم في طلب لعاعات، ويفتقد عند الضرورات والواجبات، ولا يشهد الجماعات، فضلاُ عن مجالس العلم والندوات والمحاضرات, إن سمع بمكسب هرول وأجاب , وإن طولب بالاشتراكات لوى عنقه في استياء واكتئاب ,إذا أُذن للفجر انطوى في الفراش والتف، وإن فاته مغنم من حطام الدنيا ضرب كفاً بكف, والمعصوم من ترفّع وعفّ , ولذا بكى سفيان الثوري يوماً فسأله أحد طلابه : ما يبكيك يا إمام , فرد بحرقة المربي الغيور , الذي آلمه طلب العلم من اجل متاع دنيوي محقور فقال : ( لقد صرنا يابني متجراً لطلاب الدنيا ) .
أيها الأحباب : في غزوة بدر العبر , وفي مطلع الأنفال الخبر , فطوبى لمن صان الإخاء بإعراضه عن دار الفناء , وفي أحد زجر وتأديب , وتقويم وتهذيب , فطوبى لمن لزم القمة مع الرماة , وأبى الهبوط طلباً لصفقة مزجاة , وترنم بنشيد الأباة .
كن كالصقور على الذرا تصغي لوسوسة القمر *** لا كالغراب يطارد الجيف الحقيرة في الحفر





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق