الجمعة، 16 سبتمبر 2011

مصارع الرجال تحت بروق المطامع

بسم الله الرحمن الرحيم


من سلسلة حديث الثلاثاء



 
( مصارع الرجال تحت بروق المطامع )

من قديم صدح ابن عطاء السكندري –رحمه الله- بهذه الصيحة الحارة، يغالب بها داءً عضالاً، وطمعاً قتَّالاً، لا ينحصر في عصر من العصور، بل يطفو في بهرجة وسفور، إذا نبتت للدنيا في القلب بذور، وغزت بجيش مفاتنها الصدور، وإذا الحسد والقطيعة والبغضاء، والقدح والتناجي والشحناء، وحينها يُهدر الإخاء، ويُطوى الوفاء، ويَنشط العداء، ويُكدَّر الصفاء، وهذا أخطر داء، حذر منه خاتم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه-؛ فقال في خطابه لجماعة الأنصار يوم لمح منهم طمعاً في العطاء:
( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم ).
هي والله فتنة وبيلة، لا ينجو من عصفها إلا صاحب تربية أصيلة، وأخلاق نبيلة، أمضى في محاضن التربية ومعاهد الزهد سنواتٍ طويلة.
تلك النفوس الغالبات على العُلا *** والحق يغلبها على شهواتها
وما أشنع أن تتسلل لذائذ الدنيا إلى أفياء الدعوة؛ فتهدد ثغورها الحصينة، وتطفئ مصابيح التوفيق، وتحيل بعض العاملين إلى أرقام سابحة في ضباب الشهوات، بعد أن كانوا قلاعاً من الشموخ والثبات، لا يجرؤ كيَّاد أن يقتحم عليهم الساحات.
وكأنها بلية كأداء تواصى الصالحون النذير منها، والإعراض عنها، حتى قال عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه - :
( ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر ).

نعم، كيف يصبر شارب ماء البحر، وهو كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً؟!، وإذا تزاحم العطاش على حياض الدنيا العكرة برز الاستئثار، وغاب الإيثار، تصدر الخصام ، وتوارى الوئام، دلفت العيوب، وتنافرت القلوب، سرت الأمراض، وطفح الخلل وفاض، وفرخ الطمع وباض، فساخط في الصف وراض
فمطالب بإعادة، ومطالب *** بزيادة، ومهلل ومصفق
وحينها ينفلت اللسان بكل قبيح، ويعلو التنابذ بالتصريح لا بالتلميح، وذاك ميدان فسيح، يرتع فيه الشيطان ويسيح، نزعاً وتفريقاً، وهدماً وتمزيقاً، ومن امتطى هذه الموجة الكالحة فهو فاسد الهوى، جحود كنود، ولو كان عالي المقام، له في حجر الدعوة عشرات الأعوام، ولذا جمع الله بين الدنيا والشيطان فقال:
{ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور }

كم من صاحب عزيمة وضاءة، وهمة متوثبة معطاءة، تجاوز خنادق المحن بجدارة وكفاءة، من سجن وحصار وتعذيب، وقمع وملاحقة وترهيب، ثم هوى في شباك العلاوات والترقيات والتجارات والصفقات، وما درى أن الهلاك في تلك الشباك!
كدودٌ كدودِ القزِّ ينسجُ دائماً *** ويهلك غمَّاً وسط ما هو ناسجُ
الدعاة والمجاهدون في هذه الدنيا رحالة، يرتفقون من الدنيا بما يبلغهم المقيل، كما قالها أبو عبيدة عامر بن الجراح لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد زاره في الشام يوم كان قائدها العسكري ليختبر صلابة ولاته أمام مغريات الولاية، وليرسخ مبدأ المحاسبة الذي هزل وغفا، فظهر الغلول وطفا، فما وجد عمر في بيته إلا صحفة وشناُ وجونة، فسأله أين متاعك؟ فأجاب: "
يكفينا من الدنيا ما يبلغنا المقيل".

فالزخارف الفانية إذا شغلت السائرين لصناعة مجد الأمة عن هدفهم الجليل، والثواب الأخروي الجزيل، فهي الوهدة السحيقة التي خاف علينا منها حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- فقال:
" إن أخوف ما أخاف على الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون ".
وحملة المبادئ يجب أن يربأوا بأنفسهم عن لجاجات الدنيا؛ لأنهم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، وكما قال عيسي -عليه السلام- لأصحابه : ( أنتم ملح الأرض، فإذا زالت ملوحة الملح فما الذي يصلح الطعام ؟)
،
وهكذا طالب الأخرة
يرى الدنيا وإن عظمت وجلت *** لديه...أقل من شسع النعال
لابد من وثبة فواق تبادر فيها قيادة الصحوة بإطفاء نارٍ أذكتها، وتنقية الساحة من أشواكٍ نثرتها، فحدث بعض اعوجاج، وعدول عن المنهاج، وخير سبيل إلى ذلك انتصاب القدوات المهاجرة إلى الله، الواحد منهم:
له نفس تحل به الروابي *** وتأبى أن تحل به الهضابا
وأجزم أن القدوة إذا زهدت في الراتب السمين، والترف المشين، واتخذت عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- قدوة، يوم ولي الخلافة فأبي المراكب والمواكب التي عهدها بنو أمية، وقال:
" إنما أنا واحد من المسلمين أغدو كما يغدون, وأروح كما يروحون"
،
فهذا أبلغ في التأثير على النشء من ألف خطبة ومقال،
" فمن لا يعجبك لحظه، لن ينفعك لفظه "، " وحال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل "
،
فصلاح القدوة صلاح الأتباع، وإن صلحت العين طابت سواقيها، وإن رشد المربي كان موسى، وإن هو ضل- والعياذ بالله- كان السامري.
ثم ما أجمل أن نحيي فقه الحسن البصري، وهو يضع لك لافتة تقول:
" إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الأخرة "، ومسيرتنا مستقيمة مُظَمْئِنة متى جعلنا حاديها ابن القيم وهو يشدو: " إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله ".
ولن تجتمع الدنيا والأخرة في قلب واحد، ولا يستقيم الظل والعود أعوج، ومن كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة، فإن أتقن البناء والتأسيس وإلا.....
يا بانياً في الماء حائط بيته *** فوق العباب أرى البناء مهيلاً
فطوبي لمسلم عمل في نفسه الجزم، وخفض منها محل النصب، ثم رفعها وهو يزمجر:
خضعت نفسي للباري فَسُدْتُ الكائنات *** أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات
وطوبى لدعوة ورَّثت الجيل سمت السلف، وتبنت شعارهم الراشد :
" هيا بنا نؤمن ساعة
فطهروا مجالسهم من ذكر الدنيا، وجعلوها مجالس آخرة كمجلس الإمام أحمد –رحمه الله- لا يذكر فيها شيء من أمور الدنيا بل هي ذكر لله
بذكر الله ترتاح القلوب *** ودنيانا بذكراه تطيب
زهدنا الله في دنيا الفناء، وعلق قلوبنا بدار البقاء، وحفظ دعوتنا وشبابنا من كل فتنة عمياء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق