الجمعة، 16 سبتمبر 2011

الأمانة

دلالتها لا تحد، ومعانيها لا تعد، بها تصان الحقوق فلا تغتال، وتحرس الأعمال من التسيب والإهمال، متى ما اكتسى العبد بوشاحها صار يقظ الضمير، حسن التدبير، دقيق التقدير، وقَّافاً عند تبعاته في كل صغير وكبير،
(
كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته
) كما أخبر الحبيب المصطفى .

إنها الأمانة التي تقلد عبأها الجميع، الشريف منهم والوضيع، وقد حذر الإسلام من أن تضيع، وألهب من قصر في أدائها بسياط التقريع، ومطارق التشنيع، فقال  في الحديث الذي رواه أنس  ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا لمن لا عهد له ).
وإنها والله فريضة ضخمة ثقيلة الأعباء، وإن حصرها العوام والدهماء في أضيق معانيها؛ بحفظ وديعة أو متاع, فجوهر الأمانة نفس تعتصم بالفضيلة، وشرفِ الطبع، وزكاة المعدن، تحفظ حقوق الله وحقوق الخلق، ولا تغير خصائصها الطاهرة نعماء ولا بأساء، ولذا ونال الأنبياء وسامها، وأمسكوا زمامها، فلقب نبينا قبل بعثته بالصادق الأمين، وسطرت ابنة الرجل الصالح في نبي الله موسى  شهادة طبعت في كتاب مرقوم : { يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين }. فمن الأمانة أن تُسندَ المناصب للأكْفاء، وتملأ الوظائف بالأمناء، فقد يكون الرجل رضي السيرة، طاهر السريرة؛ ولكن كفايته العلمية والعملية يسيرة، فولايته حينئذ ندامة وشر، وإن طاول في ورعه أبا ذر ، وهذا ما جعل نبي الله يوسف  يرشح نفسه للوزارة بما يملك من علم وحفظ وقوة، لا بما اختُص به من رسالة ونسب ونبوة، وقاصمة الظهور، وعظائم الأمور، أن تعبث الشفاعات بالكفاءات، وتطيش الأثرة والأهواء بأقدار الرجال الأكفاء، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ).
ومن
الأمانة
الاحتراس من الجرأة على المقدرات العامة، واستغلال المنصب والولاية في التزيد والغلول، { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، وكل منفعة شخصية، أو مصلحة ذاتية -قلت أو كثرت- تزيد عن أجرته؛ فهي غلول يرصد في صحيفته، وقد حكم النبي  على رجل غل عصابة عصب بها رأسه قبل توزيع الغنائم فقال: ( عصابة من نار يعصب بها رأسه يوم القيامة )، وقال في حديث أبي داود: ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول )، وما أكبر نفس الشيخ أحمد ياسين حين أُعطي من قبل أحد أمراء الخليج مبلغاً خاصا كي يبني له بيتاً، فمنع إخوانه من ذلك وقال: ما أكرم الشيخ أحمد لأنه ابن زكية، ولكن لأنه حماس، فالمبلغ لخزينة المال
فالعبقرية حرمانٌ وتضحيةٌ **** وليس ينبع إلا كل صبَّارِ

فاستعمال هاتف الوزارة، والتجول مع الأهل في السيارة، لشأن خاص قد يبدو أنه يسير؛ إلا إنه بداية مسير، إلى أسوأ مصير، حيث يجرؤ بعد ذلك على الكثير، ويصبح حاله -والعياذ بالله- كما قال القائل:

ذئاب الغاب حين تجوع تعدو **** وهذا حين يشبع فهو أعدى
ومن
الأمانة
أداء الواجب قدر استطاعته، مع استفراغ الجهد في إتمامه وإجادته، وإلا شاع التفريط واستشرى الخلل، وسرت في كيان الأمة السموم والعلل، ولذا قال المصطفي - وهو يرسخ مفاهيم الإتقان، ليشمخ العمران، وتُحرس الحضارات وتُصان- : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )، ولا رادع للنفس عن التقصير؛ إلا صلاح الضمير، لا سطوة وزير، ولا رهبة أمير

لن ينفع القانون فينا رادعاً **** إن لم نكن ذوي ضمائر تردع

ومن
الأمانة
ما يُستودَع المسلم من أسرار، وما يُستأمَن عليه من أخبار، فحقوق المجالس تصان، ولا ينفلت بها لسان، وكم من دماء سالت، ومدائن زالت، ومصائب توالت؛ لاستهانة بعض الأنام بنشر ما يدور في المجالس من كلام، وخذها صافية جلية منن نبيك عليه الصلاة والسلام: ( إذا حدث رجل رجلاً حديثاً، ثم التفت فهو أمانة ).
ويستثنى من ذلك تلك المجالس التي خرجت عن الآداب، واقترفت ما يذم ويعاب، من مكر وخديعة وارتياب، فلا حرمة لها ولا كرامة، بل واجب المسلم أن يكبح ما شاع فيها من فساد، ويقعد لها بالمرصاد، وينبئ عنهم أهل الاختصاص، لينالوا العقوبة والقصاص، وإليك وصفها من رسول الله حيث قال: ( المجلس بالأمانة؛ إلا ثلاثة مجالس، مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)، وهذه الميادين الثلاثة القتل والزنا والسرقة هي أَوْتى مستقر، ينضوي تحتها كل سوء وشر.
ومن عظيم الأمانات ما يقع بين الأزواج والزوجات، من عشرة مقدسة خلف أستارٍ سَابِغات مُسبَلات، ثم يثرثرون بما سُتر في حماقة صفيقة، وبتفاصيل دقيقة، وقد شبههم النبي  في انسلاخ مروءتهم، ونضوب غيرتهم بشيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون، بل عدها المصطفى  من أجل الأمانات حيث قال: ( إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها ).
وليت المسلم يدرك أن الرأس وما وعى، والبطن وما حوى أمانة، إذ منحه الله الحواس والمواهب، ورزقه المال والعيال؛ كي يسخر ذلك في قرباته، ويوظفها في نيل مرضاته، فهو القائل: { إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولاً}، وقال أيضاً: { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم }، فمن أطلق لسمعه وبصره ولسانه العنان، وسخر مواهبه في خدمة الشيطان، وفتنه الولد عن المكارم فجبن وهان، واشترى بماله مفاتن العصيان، فما حفظ الأمانة، ولا عرف لربه فضله وإحسانه، وحق لنا أن نقول لهذا ومن هم على شاكلته:

فأقسم بالرحمن أنك جاهل **** وأضل من الخفاش في ضوء ضحوة

وإن كنت صاحب بيعة عاهدت الله فيها على نصرة الإسلام، وخدمته، فهذه أمانة حقها الوفاء { ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً }، وجاء التهديد قبلها: ( ومن نكث فإنما ينكث على نفسه )، وهي تبعة ثقيلة لا يؤديها مهازيل، ولا يدرك شرف النهوض بها مخابيل

ما خضْبُ رأس كخضبٍ في بنانِ يدٍ **** وحمرة الفجر ليست حمرة الشفق

أخي الحبيب/ أنت على ثغر من ثغور هذه الدعوة المنصورة، فالبس لأمة العزم، وجرد سيف الهمة، وامتط صهوة الوفاء، وتسربل بالأمانة، ورابط على ثغور الحرمات، واحذر أن تغريك دنيا تزول، وتسول لك التفلت والنزول، فتحرم شرف الوصول، فأمامك جيش جهالة وظلم، يعرقل
الأمانة ويثبط الهمم عن سيرها المأمون ، ولذا قال الله عز وجل: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }، والآية توحي أن الأمانة
شرف عريض وميراث من المفاخر ضخم، أنت له إن تحررت من الظلم وقهرت الجهالة، وآثرت الأفعال على الأقوال، وهكذا الرجال:

كالليث يسرف في الفعال **** وليس يسرف في الزئير

 بسم الله الرحمن الرحيم

من سلسلة حديث الثلاثاء



الأمانة 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق