الجمعة، 16 سبتمبر 2011

رمضان شهر النصر والفتوحات

بسم الله الرحمن الرحيم



من سلسلة حديث الثلاثاء

رمضان شهر النصر والفتوحات



ها هو ضيف الرحمن قد أظلنا بفيوض بركاته، وغمرنا بطيوف نفحاته، ينقش في ذاكرتنا مجداً أضعناه، وعزاً فقدناه، و يجدد في مسالكنا عواطف البهجة والنهوض بعد رقود وخمول، يأتي رمضان ليبعث في قلوبنا الأمل، ويدفعنا للتحرك والعمل، لأن الشرف يكون بالهمم العالية، لا بالرمم البالية، ولن تنكشف غمة إلا بعلو همة، ولن يتحقق الوصول إلا بالعودة للأصول، ونحن المسلمين مأمورون بغسل الأرض من الرجس والدنس، وبكشف اللثام عن وجوه اللئام حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
أخي المسلم:
فهل نجعل من رمضان صرخة ميلاد لماضينا العريق، ومعلم رشاد إلى أقوم طريق، وهو الشهر الذي نكست فيه رايات الشيطان، وخفقت فيه عالية راية الإيمان، ووطأت أقدام المستضعفين هامات الجبابرة، حيث توالت الانتصارات، وتتابعت الفتوحات، ودوت صيحات التكبير من حناجر الصائمين معلنة أن الله ناصر رسله، والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
أخي الصائم :
الأمة الرشيدة هي التي تقوم اعوجاجها، وتصحح مسارها، مسترشدة بتاريخ أسلافها، مستأنسة بهدايات نبيها، تتجول في رحاب سنته، وتستلهم العبر من صرح الكرامة العالي، فلا تضل ولا تزل ولا تنحني ولا تنثني ولا تتردد ولا تتبدد، وأنى يكون ذلك والله تعالى يقول: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } .
وكثيرة هي الأحداث والوقائع التي ضمها رمضان بين جنباته، إلا أننا سنصول ونجول في بستان بدر، وفتح مكة، نستنشق من هاتين الغزوتين اللتين ضربتا بجذورهما في بطن التاريخ، وتركتا بصمات واضحة على جبين الزمان، حيث جاء الحق وزهق الباطل، { وما يبدئ الباطل وما يعيد } ، وإليك بعض الدروس وما أكثرها:
في رحاب بدر
الإرادة مفتاح النصر، وبها يتحقق الإرساء على شاطئ الكرامة، فها هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه في القتال، ولم يكن دكتاتورياً لا يريهم إلا ما يرى، ولهذا أحبه أصحابه، فترسخت الثقة بين القاعدة والقيادة، فقال المقداد بن الأسود- رضي الله عنه-: ( امض لما أمرك الله، فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون"، ثم قام سعد بن معاذ-رضي الله عنه- فقال: "والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك "، هذه الإرادة الحديدية التي تغلغلت في تلك النفوس الأبية هي التي عبدت طريق النصر، ومهدت لبناء دولة الإسلام في المدينة على كاهل هؤلاء
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت *** والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
ولو نظرنا إلى حال أمتنا اليوم، وهي تعيش على هامش التاريخ، لارتد بصرنا خاسئاً وهو حسير، فلا الإرادة موجودة، ولا الأمال منشودة، إ ذا ذكرتهم بسالف الأمجاد، وعزائم الأجداد، تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، وهل يدرك المفاخر، من رضي بالصف الآخر، فالأمة لا ينقصها سلاح ولا عدة ولا عدد، جميعها موجودة، ولن تجدي والإرادة مفقودة، كما قال الشاعر:

لا تنفع الخيل الكرام ولا القنا *** إن لم يكن فوق الكرام كرام

المقاييس الأرضية لأسباب النصر والهزيمة توحي بفهم منقوص، ومنطق معكوس، حيث تجعل الأسباب المادية والإعدادت البشرية، السبب الأوحد للنصر، ولو كان ذلك كذلك فهل لفئة مؤمنة قليلة سيوفها ملفوفة بالخرق أن تهزم جيشاً عرمرماً مزوداً بأسلحة وبيلة ومعدات ثقيلة، إن ميزان النصر والهزيمة لا يخضع للأسباب المادية وإن كان محترماً لها، ولكنه مرهون بإرادة إلهية، { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }، { وما النصر إلا من عند الله }، وقد أكد الله عز وجل أنه نصير من ينصره، وحليف من يوليه، فقال: { ولينصرن الله من ينصره }، { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }، ودليل ذلك الجيش الملائكي بقيادة جبريل- عليه السلام- حين ثبتوا المؤمنين، وأخذوا يضربون المشركين فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان.
وها هي أمتنا تعيش الغثائية التي تنبأ بها النبي –صلى الله عليه وسلم- فهي على كثرة ملايينها كم مهمل، وقطيع سادر، وأضغاث أحلام، لا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً، وما ذاك إلا لغياب الإيمان،ورواج البهتان، ولو أنهم تسلحوا بالعقيدة لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ودانت لهم الشعوب، وخضعت لهم الخطوب

إن العقيدة في قلوب رجالها *** من ذرة أقوى وألف مهند

ولعل مقولة عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه – تعن لنا في هذا المقام، حين خاطب جيش المسلمين يوم مؤتة يقول: (إننا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، ولكن نقاتلهم بهذا الدين، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ) فما لأمة تركت الإيمان، وولجت العصيان، وانتهكت حدود الرحمن، إلا أن تُذل وتهان، والأمة التي تريد النصر فما لها إليه من سبيل إلا ببناء جيل قرآني عقائدي لا يخضع إلا لله، ولا يرغب في العلو الأرضي، يستخف بالصعاب، ولا يقبل العيش بين الحفر، ويؤثر الآجلة على العاجلة، مقتدياً بعمير بن الحمام حين ألقى بتمرات في يده، وقال: ( ليس بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التمرات، لئن انتظرت حتى آكلها إنها لحياة طويلة)، فهل يهزم أمثال هؤلاء؟

من ذا يغير على الأسود ببابها *** أو من يعوم بمسبح التمساح

أما أن نربي الجيل على المسلسلات والمباريات، كما يحدث في هذه الأيام، ونقحمهم في مستنقعات الرذيلة والصفاقة والخلاعة والمجون، فهذا ما يذهب دينها، ويجعلها كهشيم المحتظر،ولعل هذا ما خشيه عمر- رضي الله عنه- فأوصى سعداً يوم القادسية قائلاً: ( يا سعد، أنا لا أخاف على الجيش من عدوه، وإنما أخاف عليه من ذنوبه، يا سعد، إذا تساويتم في المعاصي زادوا عليكم في القوة والعتاد).

من يتق الله وينصر دينه *** لابد في ساح المعارك ينصر

القيادة الرشيدة هي التي تعطي القدوة من نفسها، لتكسب ثقة الرعية، فله ما لهم وعليه ما عليهم، لا تمايز ولا أثرة، كلهم يد على من سواهم، فليس غريباً أن يجرؤ جندي كالخباب بن المنذر، ويعترض على رأي النبي- صلى الله عليه وسلم – بأدب جم وخلق رفيع مقترحاً النزول عند أدنى ماء من القوم ليشرب المسلمون ولا يشرب المشركون.
إن حواجز الرهبة لا وجود لها عندما يكون التعامل مع المبعوث رحمة للعالمين، ولعل سواد بن غزية يبرهن لنا على الانفتاح اللا محدود بين الراعي والرعية، حيث كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يعدل الصفوف بقضيب في يده، فمر على سواد خارجاً عن الصف، فضربه على بطنه ضربة خفيفة وقال: استقم يا سواد، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق فأقدني من نفسك، وتخيل معي أن أحداً قال هذه الكلمة لمسؤول أو صاحب مكانة ..، ولكن النبي-صلى الله عليه سلم- وهو من هو في مكانته وعظمته، يكشف عن بطنه ويقول لسواد: استقد يا سواد، فينكب الرجل يقبل بطن النبي ويبكي، فيسأله: ما حملك على ذلك يا سواد؟ فيجيب: جاء ما ترى، وأريد أن يكون آخر عهدي في الدنيا أن يمس جلدي جلدك حتى لا تمسه النار يوم القيامة، وهذا ما يفسر مقولة أبي سفيان قبل إسلامه: ( ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد ).
لقد كان المسلمون يوم بدر جسداً واحداً، تغلغل الإيمان في قلوبهم، فنبذوا خلافات الماضي وراء ظهورهم، كلهم متآخون في الله، مجعتمعون عليه،{ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}، وحتى يبقى جدار الإخوة بعيداً عن التصدع والشروخ، فقد نزلت سورة الأنفال تعالج في مطلعها ذلك الخلاف الذي وقع بين المسلمين على الغنائم، وتبين أن هذه الغنائم التي عليها يختلفون ما جاءت إلا بسبب أخوتهم، وترابطهم، بل هي ثمرة من ثمرات وحدتهم واعتصامهم، فليت هذه المعاني تتجسد في أمتنا وبأسها بينها شديد، حيث لا يزالون مختلفين، فكل الجماعات والأمم والشعوب تتقارب وتتوحد، ونحن نزداد فرقة وانقساماً، وتصدق فينا مقولة الشاعر:

لكل جماعة فينا إمام *** ولكن الجميع بلا إمام

في رحاب الفتح:
*** حفظ الدين والإيمان سبيل لحفظ الأوطان، فبالأمس يخرج النبي –صلى الله عليه وسلم – من مكة مهاجراً بدينه مؤثراً العقيدة على كل شيء، وها هو اليوم يعود إليها فاتحاً منتصراً، تنحني له رؤوس الذين أخرجوه من قبل، ولو أنه قدم الوطن على الدين، لضاع منه الدين والوطن.
ونحن العرب ومنذ أن سقطت بلادنا في قبضة يهود لا نزال نسلك كل سبيل إلا سبيل الله، حتى الجيوش التي خاضت حرباً مع إسرائيل كانت ترفع رايات وشعارات مناهضة للإسلام من قومية واشتراكية وثورية ووطنية، وتستحي أن تدخل الإسلام في حساب المعركة، ولذا عادت تجر ذيول الخيبة مع أن الشاعر يقول:

إن كنت ترجو أن تصيب رمية *** فاثقف سهامك قبل أن ترميها

*** موالاة الأعداء شر كبير وبلاء مستطير، تجلب المعرة، وتأتي بالمضرة، لهذا عندما بعث حاطب بن أبي بلتعة كتاباً مع امرأة إلى قومه وأصحابه في مكة يخبرهم بمقدم النبي –صلى الله عليه وسلم- اعتبر المسلمون ذلك خيانة عظمى، حتى همَّ عمر –رضي الله عنه- أن يقطع عنقه لولا أنه شهد بدراً.
فتسريب المعلومات إلى الأعداء ونشر أفكارهم وعاداتهم وربط المصير بهم، كل ذلك من الموالاة المحرمة، ولهذا قال أحد الحكماء: (مثل العدو الضاحك لك مثل الحنظلة، أوراقها خضراء، ومذاقها قاتل)، وقال آخر: ( مقاربة الأعداء كالماء كلما سخن على النار، لا يمنع ذلك من إطفائها)، وقد أصاب عنترة في قوله:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها *** عند التقلب في أنيابها العطب

*** الدين بحاجة إلى قوة تحميه، وسلطة تؤويه، ولعل هذا ما عناه عثمان بن عفان- رضي الله عنه- حين قال: ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )، فعندما رأى الناس قوة الدين يوم الفتح دخلوا فيه أفواجاً وجماعات، قال تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً }، وقال الشاعر:

لقد دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجب *** وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مصلت *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( لابد للدين من كتاب هاد، وحديد ناصر) ثم تلا قوله تعالى: { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
*** العفو عند المقدرة شيمة المسلمين، ومنهج النبيين، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يصدر عفواً شاملاً عن صناديد قريش الذين آذوه وعذبوه وشردوه قائلاً: " اذهبوا فأنتم الطلقاء "، فالانتصار للذات ليس من منهجه، ولا منهج أصحابه، ولو سمعت عنه – صلوات ربي وسلامه عليه- يوم قابل هبار بن الأسود فاراً من مكة يوم الفتح، وكان هبار قد قتل ابنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها- يوم الهجرة حيث استفز الناقة التي تركبها، وكانت حاملاً في شهرها التاسع، فسقطت من على الناقة، حدث لها نزيف قتلها، ولقد ناداه النبي قائلاً: إلى أين يا هبار؟ ، عد فقد عفوت عنك، فالنفوس الكبيرة فوق الأحقاد والضغائن، فعندما سمع النبي –صلى الله عليه وسلم – سعد بن عبادة يقول يوم الفتح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً، فأنكر النبي ذلك على سعد وقال ناهراً له : " بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشاً، ويعظم الكعبة، ثم نزع لواء كتيبة الأنصار من سعد، وأعطاه ابنه قيس تلطيفاً لمشاعر قريش.
فكيف تشوه صورة المسلمين في إعلام هذا العصر، ويصورون بأنهم وحوش تتغذى بلحوم البشر، والتاريخ القديم والحديث شاهدان أن الإجرام والإرهاب عند غيرنا، ولكن كما قال الشاعر:

وما ضر الورود وما عليها *** إذا المزكوم لم يشمم شذاها

فصن أيها المسلم بيضة الدين، وتوشح برداء الصابرين، واثبت في يقين، واعلم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق